02/09/2023 - 22:17

ننفخ في الريح أرجوحةً للجدائل | شعر

ننفخ في الريح أرجوحةً للجدائل | شعر

فلاد إيفان

 

أقطع ميناء المدينة

بخطواتٍ هادئةٍ كي لا

أوقِظَ جراحها

 

تبدو أذرع الرافعات

مع صعود الضوء

كأنّها تحاول ملامسة وجه السماء

 

يقرص الحرّ جلدي 

بينما تلوح كنيسة مار بطرس مِنْ بعيد

مثل فاكهةٍ منعشة

 

تنبعث أصوات الأعمال 

مِنَ الأبنية المرصوصة كالأسنان

بين يدي طبيبٍ بارع

 

يصعد النهار

تُحْكِمُ أمٌّ رَبْطَ جديلة

تنفعل ساحات اللعب

 

يركل طفلٌ كرةً 

يتدحرج في الأرض

رأس المدينة

 

*

 

مع اقتراب الجرّافة مِنْ مشارف الحيّ

تراجعتِ الشمس

وأرختِ الغيوم ظلالَها

 

تفوّق الصمت على

جلبة الهدم تُحْدِثُها 

جرّافاتٌ هائجة

 

عندما قطعوا رأس المدينة

تهافتتِ الغربان أعلى السور

وصاحتْ في نغمٍ متقطّع

 

فجّتِ الجرّافات 

جسد المنشيّة

توقّف قلب العالم

 

*

 

يجيء الخريف على ريحه

يولد حزن المدينة

كشقٍّ في جدار

 

ترسل شمس تشرينَ شعاعها 

نحو العشب الطالع

تشقّه طائرةٌ مارقة

 

يسبح الغيم في بطن السماء

تتنفّس الألوان:

يافا

 

خلف سترات النسوة

تكبر الحسرة

فصلًا آخر

 

*

 

كفطرٍ في جبلٍ يبزغ القلق

ثمّ يرتفع

كناطحات سحاب

 

يتراءى العالم 

كأنّه يوشك على السقوط

مِنْ أعلى

 

في الجسد الّذي

أعيش معه

ذعرٌ مِنْ أمرٍ ما

 

فرسٌ محبوسةٌ

في جمجمةٍ

تشتاق إلى الخلاص

 

حبّة المسكّن على الطاولة

خيوط الشمس تتلافظ

في كوب الماء

 

ترسل الحياة يدها 

عبر صوت القطار 

القادم من الشبّاك

 

ألاحق 

وعيي المشتّت

كذبابةٍ فارّة

 

أسافر إلى أخي

عند شاطئ الطنطورة

نلتقط الصور ونضحك

 

تعلّمني أمّي 

التغلّب على أوّل 

وظيفةٍ مدرسيّة

 

أبحث عن 

قرطٍ أضاعته أختي 

قبل ربع قرن

 

*

 

يقطع الشارع 

المرج ثمّ يصعد 

نحو السماء

 

تقف المئذنة مثل حارس

في حين تبدو قبّة المسجد مِنْ بعيد

مثل خوذة محارب

 

العودة إلى البلد

زيارةٌ إلى زمنٍ كان يُفْتَرَضُ 

أن يتوقّف

 

العودة مِنَ البلد

هروبٌ مِنْ زمنٍ

أسفر في القسوة

 

*

 

أدخل منزلَ والديّ

تقابلني

رائحة بيت جدّي

 

أمّي تصلّي 

أبي هرب إلى النوم مِنَ التفكير

في موعد العلاج البيولوجيّ

 

أسخّن الأكل

لأتناول 

حبّ أمّي دافئًا

 

يتفرّس المرض بي 

مِنْ كوب الماء

على طاولةٍ في الغرفة

 

تُعاملنا الشيخوخة الّتي

تستوطن البيت 

كأنّنا غرباءُ عنه

 

شيءٌ ما يدفعني للهرب

هو ليس الرغبة 

في النجاة

 

تأمّل وجه أمّي

محاكمةٌ ميدانيّةٌ 

يجريها الزمن

 

مقاومة أبي لمرضٍ

يهزم الجميع

إلّا صلاة أمّي

 

أشياءٌ تدفعني للبقاء

هي الشوق لكلّ

ما كان

 

غناءٌ في المطبخ

يتهادى مثل

مطرٍ خفيف

 

"عَمْ يِلْعَبوا لِوْلاد"

"هَيْدي إِمّي بْتِعْتَلّ هَمّي"

"كانوا يا حَبيبي"

 

أنا قادمٌ يا أمّي

 

أنا قادمٌ يا أمّي 

لآخذكِ مِنْ يدكِ 

ونجري في الحقل

 

أنا قادمٌ يا أبي 

لنقف على غصن شجرةٍ

ونغنّي في البراري

 

أنا قادمٌ يا جدّتي

لننفخ في الريح

أرجوحةً للجدائل

 

أنا قادمٌ يا جدّي 

لنرسم بالعنب

عيونًا للشمس

 

أنا قادمٌ يا أخي الصغير

لندلّ الليل على طريق 

الخروج مِنَ المنزل

 

ويا أخي الكبير

لنتسلّق إلى 

حبّة التين الّتي نضجتْ

 

ويا أختي

لنتنفّس كلّ 

هواء العالم

 

*

 

بأقلام الرصاص الّتي برتْها أمّي بالسكّين رسمتُ قلوب حبٍّ وورودٍ ووجوهًا لنساءٍ مجهولات، وتمنّيتُ لو أُداهِم أطيافًا خالجتْني بسيفٍ خشبيٍّ وعدني أبي أن يصنعه في عطلة الصيف. انتهتِ المدرسة وكلّ عطل الصيف، وأصبح للأطياف أسماءً، عناوينَ، أرقام هواتفٍ... حساباتٍ على مواقع التواصل.

 

*

 

يومٌ خفيفٌ

لا ريحُ قارسةٌ

ولا حرٌّ قارصٌ

الهاتف لا ينبئ بشيء

الأعضاء البنكيّة ساكنةٌ

لا قائمةُ مهامّ

فقط خبزٌ وزبدةٌ

والتفكير بعصير برتقالٍ طبيعيٍّ

التنفيذ: ربّما

صوت الغسّالة في الخلفيّة

يلتحم بصوت العصافير القادم مِنَ الشبّاك

يومٌ كهذا الآن‪؟

ربّما غدًا

أو في نهاية الأسبوع

إذا استطعتُ، أحيانًا

هنا وهناك

 

في اليوم الأخير مِنَ العام

في اليوم الأخير مِنَ العام 

أصحو بكامل طاقتي

وأفعل بإتقانٍ ما أفعله في يومٍ عاديّ؛

أرتّب المنزل

أعمل بنشاطٍ ونظامٍ

ثمّ أخرج إلى ساعة الرياضة

قبل أن يفاجئني حزنٌ صغيرٌ

كوخزة إبرة

 


 

محمود أبو عريشة

 

 

شاعر فلسطينيّ. حاصل على الماجستير في القانون، وكذلك في دراسات اللغة العربيّة. ناشط في مجال حقوق الإنسان والمجال الثقافيّ. يدير «مسرح السرايا العربيّ – يافا». صدرت له ثلاث مجموعات شعريّة: «كلمات ذات رائحة كريهة» (2012)، و«لنأكّل تفاحتنا معًا» (2020)، و«أصوات في الخلفيّة» (2020).

 

 

التعليقات